في يوم من أيام خريف عام 1865 جلس رجلان في حانة في مدينة أنسونيا في ولاية كونيكتيكت الأمريكية لتهدئة أعاصبهما باحتساء مشروبات قوية.
ركب الرجلان عربة بالقرب من تل ثم سمعا صراخا مدويا يأتي من خلفهما، وبدا لهما كأن الشيطان، برأس رجل وجسم مخلوق غريب، يندفع نحوهما أسفل التل.
أسرعا هربا بجلد خيولهما بالسياط، بينما سقط الرجل “الشيطان” على الطريق في خندق تغمره المياه.
ثم جاء إليهما الرجل يقدم لهما نفسه، كان فرنسيا داكن الشعر ينزف دما والمياه تبلله، اسمه بيير لاليمينت .
كان هذا الميكانيكي الشاب في الولايات المتحدة لبضعة أشهر، وأحضر معه من فرنسا آلة من تصميمه، عبارة عن هيكل مزود بعجلتين ودواسة، أطلق عليها اسم “دراجة”.
كان لاليمينت قد أوشك على تسجيل براءة اختراعه، وكانت دراجته تفتقر إلى وجود تروس وجنزير يستخدم في الدراجات الحديثة، فضلا عن عدم وجود فرامل، وهو سبب سقوطه أسفل التل نحو ركاب العربة بهذه السرعة الجنونية.
وسرعان ما حل تصميم آخر ابتكره بيني فارثينغ محل تصميم لاليمينت الثقيل، وكان تصميما غير جذاب، إذ كانت مركبة بعجلة أمامية كبيرة الحجم وآلة للسباقات، ضعف سرعة الدراجة السابقة.
كان يركبها الشباب الجريء الذي لا يخشى شيئا، إذ كان الراكب يجلس بصعوبة على عجلة يبلغ ارتفاعها خمسة أقدام، وكانت عُرضة للتأرجح أمام أبسط عقبة تعتريها.
بيد أن الخطوة التكنولوجية التالية أثمرت عن “دراجة آمنة”، أشبه إلى حد كبير بالدراجة الحديثة، ومزودة بجنزير يربط عجلتين متساويتين في الحجم وإطار.. كما أصبح التحكم في السرعة عن طريق تروس وليس بدفع العجلة العملاقة.. واستطاعت المرأة ركوب الدراجات الآمنة بفستانها.
ولم يكن ذلك ما أقلق انجيلين ألين، التي أحدثت ضجة كبيرة في عام 1893 عندما ركبت دراجة في منطقة نيووارك، على مشارف مدينة نيويورك بمفردها.. وكتبت مجلة شعبية للرجال عنوانا رئيسيا قالت فيه “إنها ترتدي البنطال”، وأضافت أنها صغيرة وجميلة ومطلقة.
كانت الدراجة قوة تحرير للمرأة، وأداة دعت إلى التخلص من الأحزمة المصنوعة من جلد الحيتان والتنورات التي تشد الخصر واستبدالها بملابس أبسط ومريحة، فضلا عن ركوبهن الدراجات بدون مرافق لهن.. وشعرت التيارات المحافظة بقلق، وخشية أن يؤدي “ركوب الدراجات غير المهذب” إلى ممارسة العادة السرية، وحتى ممارسة الدعارة، وسرعان ما بدت مثل هذه الاحتجاجات مضحكة.
وتشير مارجريت غوروف،مؤرخة ركوب الدراجات، إلى أنه لم يكن هناك من يشعر بقلق إزاء ما تفعله السيدة ألين، إلا ما كانت ترتديه أثناء قيامها بذلك. لم تكن رؤية امرأة بمفردها في الأماكن العامة على دراجة بمثابة فضيحة على الإطلاق.
وبعد ثلاث سنوات أعلنت سوزان ب. أنتوني، الناشطة في مجال حقوق المرأة في القرن التاسع عشر، أن ركوب الدراجات “فعل الكثير من أجل تحرير المرأة مقارنة بأي شيء في العالم”.. ولاتزال الدراجات تسهم في تمكين الشابات حتى يومنا هذا.
وبدأت حكومة ولاية بيهار الهندية في عام 2006 دعم شراء الدراجات للفتيات المراهقات اللاتي يستخدمنها في الذهاب إلى مدارسهن الثانوية، وركزت الفكرة على أن الدراجات ستتيح للفتيات السفر عدة أميال لمتابعة دروسهن.. ويبدو أن البرنامج حقق نجاحا، مما عزز على نحو كبير فرص تمسك الفتيات بمدارسهن الثانوية.
وحتى في أمريكا، تعتبر الدراجة وسيلة غير مكلفة لتوسيع الأفق، إذ أسس نجم كرة السلة ليبرون جيمس مدرسة في مسقط رأسه في ولاية أوهايو توفر دراجة لكل طالب.
ويقول إنه عندما كان هو وأصدقاؤه يركبون دراجاتهم، كانوا يشعرون بحرية، وأضاف : “كنا نشعر أننا في قمة النجاح.”
نعم، لطالما كانت الدراجة تكنولوجيا تبعث التحرر بالنسبة للمتضررين اقتصاديا، كانت في بداياتها وسيلة أرخص بكثير من الحصان، ولاتزال تتيح حرية.
ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر، استُخدمت أجزاء قابلة للتبديل ذات تصميم دقيق لصنع أسلحة عسكرية للجيش الأمريكي، بتكلفة كبيرة. وثبت أن تلك الأجزاء القابلة للتبديل مكلفة للغاية بالنسبة للمصانع المدنية التي كانت تسعى إلى محاكاة التصميم بالكامل.
وكانت الدراجة جسرا يربط بين الصناعات العسكرية المتطورة والإنتاج الضخم واسع النطاق لدراجات أكثر تعقيدا.
وطور مصنعو الدراجات تقنيات سهلة، واستخدموا صفائح معدنية في أشكال جديدة، للحفاظ على انخفاض التكلفة دون التضحية بالجودة.. كما طوروا طارات هوائية وتروس ومكابح بطريقة مختلفة.
وتبنت شركات صناعة السيارات، مثل هنري فورد، في الوقت المناسب تقنيات التصنيع وتلك المكونات المبتكرة.
وصُنعت أول دراجة آمنة في عام 1885 في مصنع “روفر” في كوفنتري في إنجلترا.. ولم يكن من قبيل الصدفة أن تصبح “روفر” قوة رئيسية في صناعة السيارات، مع تحقيق تقدم واضح من صناعة الدراجات إلى صناعة السيارات.
كما أرست الدراجة حجر أساس لتحديث الصناعة اليابانية.
بدأت الخطوة الأولى باستيراد الدراجات الغربية إلى طوكيو في حوالي عام 1890، ثم أصبح مفيدا تخصيص محلات لإصلاح الدراجات. ثم جاءت الخطوة التالية وتمثلت في صنع قطع الغيار محليا.. وكانت جميع مكونات الدراجات، بعد 10 سنوات فقط ، متوفرة لصنع الدراجات في طوكيو نفسها.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، كانت اليابان تصنع أكثر من مليون دراجة سنويا، بإدارة فئة جديدة من رجال الأعمال.
كان الإنتاج العالمي للدراجات والسيارات، قبل نصف قرن، مماثلا بواقع 20 مليون سنويا لكل منهما، ثم تضاعف إنتاج السيارات ثلاثة أضعاف منذ ذلك الوقت، لكن إنتاج الدراجات زاد بمعدل أسرع مرتين إلى نحو 120 مليون دراجة سنويا.
وبينما نقف على شفا عصر السيارات ذاتية القيادة، يتوقع الكثيرون أن تكون سيارة المستقبل مستأجرة وليست مملوكة، باستخدام نقرة واحدة لتطبيق هاتف ذكي.
وإذا كان الأمر كذلك، فمركبة المستقبل موجودة، فعلى المستوى العالمي، يوجد ما يزيد عن ألف برنامج لتأجير الدراجات، وعشرات الملايين من الدراجات سهلة الاستئجار، مع تزايد العدد بسرعة.
وأعلنت شركة “أوبر” لسيارات الأجرة بالفعل أنها تخطط للتركيز أكثر على أعمال تسيير الاسكوتر الكهربائي والدراجات الهوائية، والتقليل من السيارات.
وكانت بعض الشركات قد واجهت مشكلات عويصة في نظام العمل، مثل سرقة عدد كبير من الدراجات أو تخريبها أو تركها على نحو دفع الشركات إلى التراجع عن مزاولة النشاط في مدن معينة.
بيد أن السوق تبدو مهيئة للنمو، على اعتبار أن الدراجة لا تزال في كثير من الأحيان أسرع وسيلة للنقل في المناطق المكتظة.
وإذا كان الجيل التالي من السيارات يعتمد على تصميم كهربائي عديم التلوث، يتحكم فيها روبوت يتوخى الحذر، فقد تزداد شعبية الدراجة بسرعة.